الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم
.تفسير الآية رقم (95): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)}{يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} شروع في بيان ما يتدارك به الاعتداءُ من الأحكام إثر بيانِ ما يلحقه من العذاب، والتصريح بالنهي في قوله تعالى: {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} مع كونه معلوماً لاسيما من قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ} لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبُه عليه، واللام في الصيد للعهد حسبما سلف، وحُرُم جمع حَرام، وهو المُحرم وإن كان في الحِل، وفي حكمه من في الحَرَم وإن كان حَلالاً، كرُدُح جمع رَادح، والجملة حال من فاعل لا تقتلوا، أي لا تقتلوه وأنتم محرمون {وَمَن قَتَلَهُ} أي الصيد المعهود، وذِكرُ القتل في الموضعين دون الذبح للإيذان بكونه في حكم الميتة {مّنكُمْ} متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل قتله أي كائناً منكم.{مُّتَعَمّداً} حال منه أيضاً أي ذاكراً لإحرامه عالماً بحُرمة قتل ما يقتله، والتقييدُ بالتعمّد مع أن محظوراتِ الإحرام يستوي فيها العمْدُ والخطأ لِما أن الآية نزلتْ في المتعمِّد كما مرَّ من قصة أبي اليَسَر، ولأن الأصل فعلُ المتعمّد والخطأ لاحقٌ به للتغليظ، وعن الزُهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ. وعن سعيد بن جُبير رضي الله عنه: لا أرى في الخطأ شيئاً أخذاً باشتراط التعمّد في الآية، وهو قول داودَ عن مجاهد والحسن: أن المراد بالتعمد هو تعمدُ القتل مع نسيان الإحرام، أما إذا قتله عمْداً وهو ذاكراً لإحرامه فلا حكم عليه، وأمره إلى الله عز وجل، لأنه أعظمُ من أن يكون له كفارة. {فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ} برفعهما، أي فعليه جزاءٌ مماثلٌ لما قتله، وقرئ برفع الأول ونصب الثاني على إعمال المصدر، وقرئ بجرِّ الثاني على إضافته إلى مفعوله، وقرئ {فجزاؤه مثلُ} ما قتل على الابتداء والخبرية، وقرئ بنصبهما على تقدير فليجْزِ جزاءً أو فعليه أن يجزى جزاءً مثلَ ما قتل، والمرادُ به عند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما المثلُ باعتبار القيمة، يُقوَّم الصيد حيث صِيدَ أو في أقرب الأماكن إليه، فإن بلغَت قيمتُه قيمةَ هدْيٍ يُخير الجاني بين أن يشتريَ بها قيمةَ الصيد فيُهدِيَه إلى الحرم، وبين أن يشتريَ بها طعاماً فيُعطيَ كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً، فإن فضل ما لا يبلغُ طعامَ مسكين تصدّق به أو صام عنه يوماً كاملاً، إذ لم يُعهد في الشرع صومُ ما دونه فيكون قوله تعالى: {مِنَ النعم} بياناً للهدْي المشترى بالقيمة على أحد وجوه التخيير، فإنَّ من فعل ذلك يصدُق عليه أنه جُزيَ بمثل ما قتل من النَّعم، وعن مالك والشافعي رحمهما الله تعالى ومن يرى رأيهما: هو المِثْلُ باعتبار الخِلْقة والهيئة لأن الله تعالى أوجب مثلَ المقتول مقيداً بالنَّعم، فمن اعتبَر المِثْل بالقيمة فقد خالف النص، وعن الصحابة رضي الله عنهم: أنهم أوجبوا في النَّعامة بدنةً، وفي الظبْيِ شاةً، وفي حمار الوَحش بقرَةً، وفي الأرنب عَناقاً، وعن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:«الضبُع صيدٌ وفيه شاةٌ إذا قتله المُحرم» ولنا أن النصَّ أوجبَ المثْل، والمِثْلُ المطلق في الكتاب والسنة وإجماعِ الأمة والمعقولِ يُراد به إما المثلُ صورةً ومعنى، وإما المثلُ معنى. وأما المثلُ صورةً بلا معنى فلا اعتبارَ له في الشرع أصلاً، وإذا لم يمكن إرادةُ الأول إجماعاً تعيّنت إرادةُ الثاني لكونه معهوداً في الشرع كما في حقوق العباد، ألا يرى أن المماثلة بين أفراد نوعٍ واحد مع كونها في غاية القوة والظهور لم يعتبْرها الشرع، ولم يجعل الحيوانَ عند الإتلاف مضموناً بفردٍ آخَرَ من نوعه مماثلٍ له في عامة الأوصاف بل مضموناً بقيمتِه مع أن المنصوص عليه في أمثاله إنما هو المثل، قال تعالى: {فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} فحيث لم تُعتبرْ تلك المماثلةُ القويةُ مع تيسُّر معرفتِها وسهولةِ مراعاتِها فَلأَنْ لا تُعتبرُ ما بين أفراد أنواع مختلفةٍ من المماثلة الضعيفة الخفيةِ مع صعوبة مأخذِها وتعسُّرِ المحافظة عليها أولى وأحرى، ولأن القيمة قد أريدت فيما لا نظيرَ له إجماعاً فلم يبق غيرُه مراداً، إذْ لا عمومَ للمشترَك في مواقع الإثبات، والمراد بالمرويِّ إيجابُ النظير باعتبار القيمة لا باعتبار العين، ثم الموجبُ الأصليُّ للجناية والجزاءِ المماثلِ للمقتول إنما هو قيمتُه، لكن لا باعتبار أن يعمِدَ الجاني إليها فيصرِفَها إلى المصارف ابتداءً، بل باعتبار أن يجعلَها معياراً فيقدِّرَ بها إحدى الخصال الثلاث فيُقِيمَها مُقامها، فقوله تعالى: {مّثْلُ مَا قَتَلَ} وصفٌ لازم للجزاء، غيرُ مفارِقٍ عنه بحال، وأما قوله تعالى: {مِنَ النعم} فوصفٌ له معتبرٌ في ثاني الحال بناءً على وصفه الأول الذي هو المعيارُ له ولِما بعده من الطعام والصيام، فحقُّهما أن يُعطفا على الوصف المفارِق لا على الوصف اللازم فضلاً عن العطف على الموصوف كما سيأتي بإذن الله تعالى. ومما يرشدك إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ} أي بمثل ما قتل {ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ} أي حكَمان عادلان من المسلمين لكنْ لا لأن التقويمَ هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد من العُدول دون الأشياء المشاهدةَ التي يستوي في معرفتها كلُّ أحد من الناس، فإن ذلك ناشىء من الغفلةِ عما أرادوا بما به اللماثلة، بل لأن ما جعلوه مدار المماثلة بين الصيد وبين النَّعم من ضربِ مشاكَلةٍ ومضاهاة في بعض الأوصاف والهيئات مع تحقق التبايُن بينهما في بقية الأحوال مما لا يَهتدي إليه، من أساطينِ أئمة الاجتهاد، وصناديدِ أهل الهداية والإرشاد، إلا المؤيدون بالقوة القدسية، ألا يُرى أن الإمام الشافعي رضي الله عنه أوجب في قتل الحمامة شاةً بناء على ما أثبتَ بينهما من المماثلة من حيث أن كلاًّ منهما يعُبّ ويهدِر، مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضّبّ والنون، فكيف يُفوَّضُ معرفةُ أمثالِ هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدْلين من آحاد الناس؟ على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص، فبعد ما عُيِّن، بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد، نوعٌ من أنواع النعم يتم الحُكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجةٌ إلى حكمٍ أصلاً.وقرئ {يحكم به ذو عدل} على إرادة جنس العادل دون الوَحْدة، وقيل: بل على إرادة الإمام، والجملة صفة لجزاءٌ أو حال منه لتخصصه بالصفة، وقوله تعالى: {هَدْياً} حال مقدرة من الضمير في {به}، أو في {جزاء} لما ذكر من تخصصه بالصفة، أو بدلٌ من {مثل} فيمن نصبه، أو مِنْ محله فيمن جرَّه، أو نصبٌ على المصدر أي يهديه هدياً، والجملة صفة أخرى لجزاء.{بالغ الكعبة} صفةٌ لـ {هدياً} لأن الإضافة غير حقيقية {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطف على مل {من النعم} على أنه خبر مبتدأ محذوف، والجملةُ صفة ثانية لـ {جزاء} كما أشير إليه، وقوله تعالى: {طَعَامُ مساكين} عطفُ بيانٍ لكفارةٌ عند من لا يخصصه بالمعارف، أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي طعام مساكين، وقوله تعالى: {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاما} عطف على طعام الخ، كأنه قيل: فعليه جزاءٌ مماثلٌ للمقتول هو من النَّعم أو طعامُ مساكينَ أو صيامُ أيامٍ بعددهم، فحينئذتكون الماثلةُ وصفاً لازماً للجزاء يقدَّر به الهدْي والطعام والصيام، أما الأولان فبلا واسطة، وأما الثالث فبواسطة الثاني، فيختار الجاني كلاًّ منها بدلاً من الآخرَيْن، هذا وقد قيل: إن قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ} عطف على {جزاء} فلا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدَّر به الطعام والصيام، والالتجاءُ إلى القياس على الهدْي تعسفٌ لا يخفى، هذا على قراءة {جزاء} بالرفع على سائر القراءات، فقوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ} خبر مبتدأ محذوفٍ، والجملة معطوفة على جملة هو {من النعم}. وقرئ {أو كفارةُ طعامِ مساكين} بالإضافة لتبيين نوع الكفارة وقرئ {طعامُ مِسْكين} على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس وقرئ {أو عِدْل} بكسر العين والفرق بينهما أن عَدلَ الشيء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعِدْلَه ما عُدِل به في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول وذلك إشارة إلى الطعام و{صياماً} تمييز للعَدْل، والخيار في ذلك للجاني عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وللحَكَمين عند محمد رحمه الله.{لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} متعلق بالاستقرار في الجار والمجرور، أي فعليه جزاءٌ ليذوق الخ، وقيل: بفعل يدل عليه الكلام، كأنه قيل: شرع ذلك عليه ليذوق وبال أمره أي سوءَ عاقبةِ هَتْكه لحُرمة الإحرامِ، والوبال في الأصل: المكروهُ والضررُ الذي ينال في العاقبة مَنْ عمل سوءاً لثِقَله، ومنه قوله تعالى: {فأخذناه أَخْذاً وَبِيلاً} ومنه الطعام الوبيلُ وهو الذي لا تستمرِئُه المَعِدة {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} من قتل الصيد مُحرِماً قبل أن يسألوا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقيل: عما سلف منه في الجاهلية، لأنهم كانوا متعبَّدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرّماً {وَمَنْ عَادَ} إلى قتل الصيد بعد النهي عنه وهو محرم {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو ينتقم الله منه، ولذلك دخلت الفاء كقوله تعالى: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} أي فذلك لا يخاف الخ، وقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتّعُهُ} أي فأنا أمتعه، والمراد بالانتقام التعذيبُ في الآخرة، وأما الكفارة فعن عطاءٍ وإبراهيمَ وسعيدِ بن جبير والحسن أنها واجبة على العائد، وعن ابن عباس رضي الله عنهما وشُريح أنه لا كفارة عليه تعلقاً بالظاهر {والله عَزِيزٌ} غالب لا يُغالَب {ذُو انتقام} شديد فينتقم ممن أصر على المعصية والاعتداء..تفسير الآية رقم (96): {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)}{أُحِلَّ لَكُمُ} الخطاب للمُحْرمين {صَيْدُ البحر} أي ما يصاد في المياه كلها بحراً كان أو نهراً أو غديراً، وهو ما لا يعيش إلا في الماء مأكولاً أو غير مأكول {وَطَعَامُهُ} أي وما يُطْعَم من صيده، وهو تخصيص بعد تعميم والمعنى أحل لكم التعرّضُ لجميع ما يصاد في المياه والانتفاعُ به، وأكلُ ما يؤكل منه وهو السمك عندنا، وعند ابن أبي ليلى جميعُ ما يصاد فيه، على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيدُ حيوانِ البحر وأن تَطْعَموه، وقرئ {وطُعْمه}، وقيل: صيدُ البحر ما صيد فيه، وطعامُه ما قذفه أو نَضَب عنه {متاعا لَّكُمْ} نُصِب على أنه مفعول له مختص بالطعام كما أن {نافلة} في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} حالٌ مختصة بيعقوبَ عليه السلام، أي أحل لكم طعامه تمتيعاً للمقيمين منكم يأكلونه طرياً {وَلِلسَّيَّارَةِ} منكم يتزودونه قَديداً، وقيل: نُصب على أنه مصدر مؤكِّد لفعل مقدر، أي متّعكم به متاعاً، وقيل: مؤكد لمعنى {أُحل لكم} فإنه في قوة متّعكم به تمتيعاً كقوله تعالى: {كتاب الله عَلَيْكُمْ} {وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر} وقرئ على بناء الفعلِ للفاعل ونصْبِ {صيدَ البر}، وهو ما يُفْرِخُ فيه وإن كان يعيش في الماء في بعض الأوقات كطير الماء {مَا دُمْتُمْ حُرُماً} أي محرمين، وقرئ بكسر الدال من دامَ يدامُ، وظاهرُه يوجب حرمة ما صاده الحَلالُ على المُحرم وإن لم يكن له مَدْخلٌ فيه، وهو قول ابن عمرَ وابن عباس رضي الله عنهم. وعن أبي هريرة وعطاءٍ ومجاهدٍ وسعيدِ بنِ جُبير رضي الله عنهم أنه يحلُّ له أكلُ ما صاده الحلالُ وإن صاده لأجله إذا لم يُشِرْ إليه ولم يُدلَّ عليه، وكذا ما ذبحه قبل إحرامِه وهو مذهبُ أبي حنيفة، لأن الخِطاب للمحرمين، فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صِدتُّم في البر فيَخرُج منه مَصيدُ غيرهم، وعند مالك والشافعي وأحمد لا يباح ما صِيدَ له {واتقوا الله} فيما نهاكم عنه أو في جميع المعاصي التي من جملتها ذلك {الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} لا إلى غيره حتى يُتَوهَّمَ الخلاصُ من أخذه تعالى بالالتجاء إليه..تفسير الآية رقم (97): {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97)}{جَعَلَ الله الكعبة} قال مجاهد: سميت كعبةً لكونها مُكَعبّةً مُربَّعة، وقيل: لانفرادها من البناء، وقيل: لارتفاعها من الأرض ونتوئها، وقوله تعالى: {البيت الحرام} عطفُ بيانٍ على جهة المدح دون التوضيح كما تجيء الصفةُ كذلك، وقيل: مفعولٌ ثانٍ لجعل، وقوله تعالى: {قِيَاماً لّلنَّاسِ} نُصبَ على الحال، ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما سيجيء، بل هذا هو المفعول الثاني، وقيل: الجعلُ بمعنى الإنشاءِ والخلق وهو حال كما مر. ومعنى كونه قياماً لهم أنه مدارٌ لقيام دينهم ودنياهم إذ هو سببٌ لانتعاشهم في أمور معاشِهم ومَعادِهم، يلوذ به الخائفُ، ويأمَن فيه الضعيف، ويربح فيه التجار، ويتوجه إليه الحجاج والعُمّار، وقرئ {قِيَماً} على أنه مصدر على وزن شِبَع أُعلَّ عينه بما أُعلَّ في فعله {والشهر الحرام} أي الذي يؤدى فيه الحجُ وهو ذو الحجة وقيل: جنس الشهر الحرام، وهو وما بعده عطف على الكعبة، فالمفعول الثاني محذوف ثقةً بما مر، أي وجعل الشهر الحرام {والهدى والقلائد} أيضاً قياماً لهم، والمرادُ بالقلائد ذواتُ القلائد وهي البُدْنُ، خُصّت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر، وبهاءَ الحجَّ بها أظهر {ذلك} إشارة إلى الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره، ومحلُّه النصبُ بفعل مقدر يدل عليه السياق وهو العامل في اللام بعده أي شرَعَ ذلك.{لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض} فإن تشريع هذه الشرائعِ المستَتْبِعةِ لدفع المضارِّ الدينية والدنيوية قبل وقوعها وجلبِ المنافع الأولوية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع، وعدمِ خروجِ شيء عن علمه المحيط، وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله بِكُلّ شيء عَلِيمٌ} تعميمٌ إثْرَ تخصيصٍ للتأكيد، ويجوز أن يراد بما في السموات والأرض الأعيانُ الموجودة فيهما، و{بكل شيء} الأمورُ المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قبيل المعاني..تفسير الآيات (98- 100): {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)}{اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} وعيد لمن انتهك محارِمَه أو أصر على ذلك، وقوله تعالى: {وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى أو أقلع عن الانتهاك بعد تعاطيه، ووجهُ تقديمِ الوعيد ظاهر {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} تشديد في إيجاب القيام بما أَمَرَ به، أي الرسول قد أتى بما يوجب عليه من التبليغ بما لا مزيد عليه، وقامت عليكم الحجة ولزمتكم الطاعة، فلا عذر لكم من بعد في التفريط {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} فيؤاخذكم بذلك نقيراً وقِطْميراً.{قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين الرديء من الأشخاص والأعمال والأموال، وبين جيِّدها، قَصَد به الترغيب في جيِّد كل منها والتحذيرَ عن رديئها، وإن كان سببَ النزول شريحُ بنُ ضُبيعةَ البكريُّ الذي مرت قصته في تفسير قوله تعالى يُرِيدُ: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَائِرَ الله} الخ، وقيل: نزلت في رجل سأل رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن الخمر كانت تجارتي، وإني اعتقدت من بيعها مالاً، فهل ينفعني من ذلك المال إن عمِلت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدِلْ جَناحَ بعوضة، إن الله لا يقبل إلا الطيب»، وقال عطاءٌ والحسنُ رضي الله عنهما: الخبيث والطيب الحرامُ والحلال، وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي يُنْبىء عنه عدمُ الاستواء فيه لا في مقابِلِه، فإنه مفهومٌ عدمُ الاستواء بين الشيئين المتفاوتين زيادةً ونقصاناً وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتبارُه بحسب قصور القاصر كما في قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الاعمى والبصير} إلى غير ذلك، وأما قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} فلعل تقديمَ الفاضلِ فيه لما أن صِلتَه ملكة لصلة المفضول {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} أي وإن سرك كثرته، والخطاب لكل واحد من الذين أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بخطابهم، والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدَّر، وقيل: للحال وقد مر، أي ولو لم تُعجِبْك كثرة الخبيث ولو أعجبتك، وكلتاهما في موقع الحال من فاعل لا يستوي، أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض كما في قولك: أحسِنْ إلى فلان وإن أساء إليك، أي أحسن إليه وإن لم يُسِىءْ إليك وإن أساء إليك، أي كائناً على كل حال مفروض، وقد حُذفت الأولى حذفاً مطَّرداً لدِلالة الثانية عليها دلالة واضحة، فإن الشيء إذا تحقق مع المعارِض فلأن يتحقق بدونه أولى، وعلى هذا السر يدور ما في لو وإن الوصليتين من المبالغة والتأكيد، وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلهما عليه، وسيأتي تمام تحقيقه في مواقعَ عديدةٍ بإذن الله عز وجل.{فاتقوا الله ياأولى أُوْلِى الالباب} أي في تحرِّي الخبيث وإن كثر، وآثِروا عليه الطيِّب وإن قلّ، فإن مدارَ الاعتبار هو الجُودة والرداءةُ لا الكثرةُ والقِلة، فالمحمودُ القليلُ خيرٌ من المذموم الكثير، بل كلما كثر الخبيثُ كان أخبثَ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} راجين أن تنالوا الفلاح.
|